كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَالضَّرْبُ الثَّانِي: يَجْمَعُهُمْ فِي الْقَذْفِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَقُولُ: زَنَيْتُمْ، أَوْ أَنْتُمْ زُنَاةٌ. فَفِيهِ قَوْلَان:
أحدهما:- وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ- أَنَّهُ تَتَدَاخَلُ حُدُودُهُمْ، وَيُحَدُّ لِجَمِيعِهِمْ حَدًّا وَاحِدًا، اعْتِبَارًا بِكَلِمَةِ الْقَذْفِ أَنَّهَا وَاحِدَةٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي:- وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ- أَنَّ حُدُودَهُمْ لَا تَتَدَاخَلُ، وَيُحَدُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَدًّا مُنْفَرِدًا اعْتِبَارًا بِهِمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَتَدَاخَلُ حُدُودُ جَمَاعَتِهِمْ، وَيَحُدُّ لِجَمِيعِهِمْ حَدًّا وَاحِدًا، سَوَاءً جَمَعَهُمْ فِي الْقَذْفِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ أَفْرَدَهُمْ وَقَذَفَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِكَلِمَةٍ مُفْرَدَةٍ: احْتِجَاجًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النُّورِ: 4]، الْآيَةَ فَجَعَلَ لِكُلِّ الْمُحْصَنَاتِ حَدًّا وَاحِدًا. وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ بْنِ السَّمْحَاءِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْبَيِّنَةُ وَحَدًّا، أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ فَقَذْفُ اثْنَيْنِ أَوْجَبَ عَلَيْهِ حَدًّا. وَلِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّ الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْمُغِيرَةِ بِالزِّنَا حَدًّا وَاحِدًا، وَقَدْ صَارُوا قَذَفَةً لَهُ وَلِلْمَرْأَةِ. وَلِأَنَّ فِعْلَ الزِّنَا أَغْلَظُ مِنَ الْقَذْفِ بِهِ، ثُمَّ كَانَ الزِّنَا إِذَا تَكَرَّرَ فِي جَمَاعَةٍ تَدَاخَلَتْ حُدُودٌ، فَكَانَ الْقَذْفُ بِهِ أَوْلَى أَنْ تَتَدَاخَلَ حُدُودُهُ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّهَا حُدُودٌ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَوَجَبَ أَنْ تَتَدَاخَلَ كَالزِّنَا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَدَاخَلَ الْقَذْفُ إِذَا تَكَرَّرَ فِي وَاحِدٍ وَجَبَ أَنْ يَتَدَاخَلَ إِذَا تَكَرَّرَ فِي جَمَاعَةٍ، وَلِأَنَّهَا حُدُودٌ تَتَدَاخَلُ فِي الزِّنَا، فَوَجَبَ أَنْ تَتَدَاخَلَ فِي الْقَذْفِ كَالْمُتَكَرِّرِ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ الْقَذْفَ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ فِي الْأَجَانِبِ وَاللِّعَانَ فِي الزَّوْجَاتِ، فَلَمَّا لَمْ يَتَدَاخَلِ اللِّعَانُ فِي الزَّوْجَاتِ وَأَفْرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُنَّ بِلِعَانٍ لَمْ تَتَدَاخَلِ الْحُدُودُ فِي الْأَجَانِبِ، وَانْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِحَدٍّ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّهُ أَحَدُ مُوجِبَيِ الْقَذْفِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَدَاخَلَ فِي حُقُوقِ الْجَمَاعَةِ كَاللِّعَانِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ حُقِّقَ قَذْفُهُ الْجَمَاعَةَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَدٌّ كَامِلٌ وَجَبَ إِذَا تَحَقَّقَ قَذْفُهُ أَنْ يُحَدَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَدًّا كَامِلًا: لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ مُقَابِلٌ كَحَدِّ الزِّنَا عَلَيْهِمْ. وَيَتَحَرَّرُ مِنْهُ قِيَاسَان:
أحدهما: أَنَّهُ أَحَدُ حَالَتَيِ الْقَذْفِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَدَاخَلَ مُوجِبُهُ كَمَا لَوْ تَحَقَّقَ.
وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ مَقْذُوفٍ لَوْ تَحَقَّقَ قَذْفُهُ، لَمْ يَتَدَاخَلِ الْحَدُّ عَلَيْهِ وَجَبَ إِذَا لَمْ يَتَحَقَّقُ أَنْ لَا يَتَدَاخَلَ لَهُ، كَقَذْفِ الْوَاحِدِ لِوَاحِدٍ، وَلِأَنَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلِنَا فِي حَدِّ الْقَذْفِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ عَلَى مَا سَنَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ بَعْدُ. فَنَقُولُ عِنْدَ ثُبُوتِهِ: إِنَّ كُلَّ حَقٍّ لِآدَمِيٍّ إِذَا لَمْ يَتَدَاخَلْ فِي وُجُوبِهِ لِلْوَاحِدِ عَلَى الْجَمَاعَةِ لَمْ يَتَدَاخَلْ فِي وُجُوبِهِ لِلْجَمَاعَةِ عَلَى الْوَاحِدِ كَالْقِصَاصِ، وَفِيهِ احْتِرَازٌ مِنْ آجَالِ الدُّيُونِ: لِأَنَّهَا تَتَدَاخَلُ فِي حَقِّ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ: فَهُوَ أَنَّهَا دَلِيلُنَا: لِأَنَّهُ أَوْجَبَ لِلْجَمَاعَةِ عَلَى الْجَمَاعَةِ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، فَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ بِهَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَاذِفِينَ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَقْذُوفِينَ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ، فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: «حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ» إِشَارَةٌ إِلَى الْحَبْسِ وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَجِبَ فِيهِ حَدَّانِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَوْجَبَ الْحَدَّ لِمَنْ طَالَبَ بِهِ، وَلَمْ يَخُصَّ شَرِيكَ بْنَ السَّحْمَاءِ مُطَالِبًا فَيُوجِبُ لَهُ الْحَدَّ.
وَالثَّالِثُ: مَا حُكِيَ أَنَّ شَرِيكَ بْنَ السَّحْمَاءِ كَانَ يَهُودِيًّا وَلَا حَدَّ فِي قَذْفِ الْيَهُودِيِّ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عُمَرَ فِي حَدِّهِ الشُّهُودَ عَلَى الْمُغِيرَةِ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ لَمْ يُعَيِّنُوا الْمَزَنِيَّ بِهَا، فَيَجِبُ الْحَدُّ بِقَذْفِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا لَمْ تُطَالَبْ بِهِ فَيُحَدُّونَ لَهَا.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ فِعْلٌ وَاحِدٌ فَلَمْ يَجِبْ فِي الْقَذْفِ بِهِ إِلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى حَدِّ الزِّنَا: فَهُوَ أَنَّهُ حَدٌّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَوْضُوعَةِ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ، وَإِدْرَائِهَا بِالشُّبْهَةِ، وَحَدُّ الْقَذْفِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الَّتِي تَدْخُلُهَا الْمُضَايَقَةُ وَالْمُشَاحَنَةُ، وَلَا تُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ، فَكَانَ افْتِرَاقُهَا فِي التَّغْلِيظِ مُوجِبًا لِافْتِرَاقِهَا فِي التَّدَاخُلِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اعْتِبَارِ تَكْرَارِ الْقَذْفِ لِلْجَمَاعَةِ بِتَكْرَارِهِ فِي الْوَاحِدِ، فَهُوَ فَسَادٌ، مَوْضُوعُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا تَدَاخَلَ لِعَانُهُ إِذَا تَكَرَّرَ فِي الزَّوْجَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلَمْ يَتَدَاخَلْ إِذَا تَكَرَّرَ فِي الزَّوْجَاتِ، كَذَلِكَ الْقَذْفُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ تَكْرَارُ الْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ يُوجِبُ تَدَاخُلَ الْمَهْرِ فِي الْمَنْكُوحَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلَا يُوجِبُ تَدَخُّلَهُ فِي مُهُورِ الْجَمَاعَةِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتَبَرَ مَا تَكَرَّرَ فِي الْوَاحِدِ بِمَا تَكَرَّرَ فِي الْجَمَاعَةِ.
مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ قَالَ: يَا ابْنَ الزَّانِيَيْنِ. وَكَانَ أَبَوَاهُ حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ مَيِّتَيْنِ فَعَلَيْهِ حَدَّانِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْمَحْضَةِ عِنْدَنَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هِيَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ الْمَحْضَةِ، وَتَأْثِيرُ هَذَا الْخِلَافِ حُكْمَان:
أحدهما: أَنَّهُ يَسْقُطُ بِالْعَفْوِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَلَا يَسْقُطُ بِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُورَثُ بِالْمَوْتِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَلَا يُورَثُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فِي كِتَابِ اللِّعَانِ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَلَوْ قَذَفَ مَيِّتَةً اسْتَحَقَّ وَلَدُهَا حَدَّ قَاذِفِهَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ. فَوَافَقَ أَبُو حَنِيفَةَ إِذَا قَذَفَهَا بَعْدَ مَوْتِهَا، وَخَالَفَ إِذَا قَذَفَهَا فِي حَيَاتِهَا ثُمَّ مَاتَتْ، وَوِفَاقُهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِ خِلَافِهِ. وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَثْبُتُ لَهُ حَقٌّ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَصَارَ الْحَدُّ حَقًّا لِوَلَدِهَا دُونَهَا فَلَمْ يَكُنْ مَوْرُوثًا عَنْهَا. وَهَذَا فَاسِدٌ: لِأَنَّهُ يُرَاعِي فِي وُجُوبِ الْحَدِّ إِحْصَانَ الْأُمِّ دُونَ الْوَلَدِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ لَرَاعَيْنَا إِحْصَانَهُ دُونَ الْأُمِّ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَجِبَ لَهَا بَعْدَ مَوْتِهَا حَدُّ الْقَذْفِ، كَمَا وَجَبَ عَلَيْهَا بَعْدَ مَوْتِهَا غُرِّمَ مَا تَلَفَ بِجِنَايَتِهَا مِنْ حَفْرِ بِئْرٍ وَوَضْعِ حَجَرٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ حَالَ الْأُمِّ يَقْدَحُ فِي نَسَبِ الِابْنِ، فَوَجَبَ لَهُ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ إِرْثٍ. وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ قُذِفَ أَبَوْهُ بِالزِّنَا بِغَيْرِ أُمِّهِ، أَوْ قُذِفَتْ أُمُّهُ بِالزِّنَا بَعْدَ وِلَادَتِهِ وَكِبَرِهِ لَمْ يَكُنْ هَذَا قَادِحًا فِي نَسَبِهِ وَيَمْلِكُ الْحَدَّ فِيهَا، فَبَطُلَ التَّعْلِيلُ بِقَدْحِ النَّسَبِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ وَجَبَ الْحَدُّ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ لَاسْتَحَقَّهُ فِي حَيَاةِ أُمِّهِ، وَهُوَ لَا يَسْتَحِقُّهُ، فَبَطُلَ الِاعْتِلَالُ بِهِ، وَلَمْ يَبْقَ لِاسْتِحْقَاقِهِ عِلَّةٌ إِلَّا الْمِيرَاثُ.
فصل: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَوْرُوثٌ فَصُورَةُ مَسْأَلَتِنَا فِي رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا ابْنَ الزَّانِيَيْنِ. فَهَذَا قَاذِفٌ لِأَبَوَيْهِ دُونَهُ، فَإِنْ كَانَ أَبَوَاهُ حَيَّيْنِ فَهُمَا الْمُطَالِبَانِ بِحَدِّ قَذْفِهِمَا دُونَهُ، فَإِنْ عَفَوَا صَحَّ عَفْوُهُمَا وَلَا حَقَّ لِلْوَلَدِ فِي حَدِّ قَاذِفِهِمَا. وَإِنْ كَانَا مَيِّتَيْنِ فَهُوَ مِيرَاثٌ لِلْوَلَدِ عَنْهُمَا وَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْمُطَالَبَةِ بِحَدِّ قَذْفِهِمَا، وَهُوَ قَذْفُ اثْنَيْنِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَكُونُ فِيمَا يَسْتَحِقُّ بِهِ قَوْلَان:
أحدهما: وَهُوَ الْقَدِيمُ حَدٌّ وَاحِدٌ: لِأَنَّهُ قَذَفَ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَالثَّانِي:- وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ- حَدَّانِ: لِأَنَّ الْمَقْذُوفَ اثْنَانِ. فَإِنْ عَفَا الِابْنُ عَنِ الْحَدِّ صَحَّ عَفْوُهُ، وَلَوْ عَفَا عَنْ حَدِّ أَحَدِهِمَا كَانَ لَهُ الْحَدُّ فِي قَذْفِ الْآخَرِ.
مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَوْ يَأْخُذُ حَدَّ الْمَيِّتِ وَلَدُهُ وَعَصَمَتُهُ مَنْ كَانُوا. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي وَارِثِ حَدِّ الْقَذْفِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ: أَحَدُّهَا: أَنَّهُ يَرِثُهُ ذُكُورُ الْعَصَبَاتِ دُونَ غَيْرِهِمْ كَوِلَايَةِ النِّكَاحِ: لِأَنَّهُمَا مَعًا مَوْضُوعَانِ لِنَفْيِ الْعَارِ. نُصَّ عَلَيْهِ فِي اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَرِثُهُ جَمِيعُ ذَوِي الْأَنْسَابِ دُونَ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ: لِاخْتِصَاصِهِ بِمَعَرَّةِ النَّسَبِ، فَخَرَجَ مِنْ مُسْتَحِقِّهِ مَنْ خَرَجَ مِنَ النَّسَبِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: يَرِثُهُ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ مِنْ دُونِ الْأَنْسَابِ وَالْأَسْبَابِ كَالْمَالِ.
فصل: فَإِذَا اسْتَحَقَّ بِالْإِرْثِ عَلَى مَا وَصَفْنَا كَانَ لِجَمِيعِهِمْ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ، فَلَوْ طَالَبَ بِهِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَعَفَا الْبَاقُونَ عَنْهُ كَانَ لِلطَّالِبِ بِهِ مِنْهُمْ أَنْ يَسْتَوْفِيَ جَمِيعَهُ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فِي عَفْوِ الْقِصَاصِ يُرْجَعُ إِلَى بَدَلٍ هُوَ الدِّيَةُ، فَسَقَطَ حَقُّهُ بِعَفْوِ غَيْرِهِ، وَلَا يُرْجَعُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ إِلَى بَدَلٍ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْقُطَ حَقُّهُ بِعَفْوِ غَيْرِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ تَأْثِيرَ الْجِنَايَةِ لَا يَتَعَدَّى الْمَجْنِي عَلَيْهِ فَقَامَ جَمِيعُ وَرَثَتِهِ فِيهِ مَقَامَهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا كَانَ لَهُ مِنَ الْحَدِّ بِقَدْرِ إِرْثِهِ: لِأَنَّهُ يَتَبَعَّضُ كَالدِّيَةِ. قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الدِّيَةَ عِوَضٌ فَجَازَ أَنْ تَتَبَعَّضَ، وَحَدُّ الْقَذْفِ لِنَفْيِ الْمَعَرَّةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَبَعَّضَ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الدِّيَةَ لَمَّا تَبَعَّضَتْ فِي الْوُجُوبِ جَازَ أَنْ تَتَبَعَّضَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَحَدُّ الْقَذْفِ لَمَّا لَمْ يَتَبَعَّضْ فِي الْوُجُوبِ لَمْ يَتَبَعَّضْ فِي الِاسْتِحْقَاقِ.
مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ قَالَ الْقَاذِفُ لِلْمَقْذُوفِ: إِنَّهُ عَبْدٌ. فَعَلَى الْمَقْذُوفِ الْبَيِّنَةُ: لِأَنَّهُ يَدَّعِي الْحَدَّ وَعَلَى الْقَاذِفِ الْيَمِينُ: لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الْحَدَّ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ لَقِيطًا أَوْ مَجْهُولَ النَّسَبِ فَادَّعَى أَنَّهُ حُرٌّ لِيَحُدَّ قَاذِفُهُ، وَأَنْكَرَ الْقَاذِفُ حُرِّيَّتَهُ، وَقَالَ: أَنْتَ عَبْدٌ. فَلَا حَدَّ لَكَ عَلَيَّ، فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ اللَّقِيطِ اخْتِلَافَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي حُكْمِ اللَّقِيطِ، فَأَحَدُ قَوْلَيْهِ: إِنَّهُ مَجْهُولُ الْأَصْلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ حُرٌّ فِي الظَّاهِرِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ مَجْهُولُ الْأَصْلِ. كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ قَاذِفِهِ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ عَبْدٌ، إِلَّا أَنْ يُقِيمَ الْمَقْذُوفُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ حُرٌّ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ حُرٌّ فِي الظَّاهِرِ. فَفِيهِ وَجْهَان:
أحدهما: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَقْذُوفِ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ حُرٌّ اعْتِبَارًا بِالظَّاهِرِ مِنْ حَالِهِ، إِلَّا أَنْ يُقِيمَ الْقَاذِفُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ قَاذِفِهِ أَيْضًا: لِأَنَّ حُدُودَ الْأَبْدَانِ مَوْضُوعَةٌ عَلَى إِدْرَائِهَا بِالشُّبْهَةِ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الْقَذْفِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْقَاذِفِ دُونَ الْمَقْذُوفِ. وَقَالَ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ: إِذَا قَالَ الْجَانِي وَهُوَ حُرٌّ: إِنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ عَبْدٌ. فَلَا قَوَدَ لَهُ، وَقَالَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ: أَنَا حُرٌّ فَلِيَ الْقَوَدُ. أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ دُونَ الْجَانِي، فَخَالَفَ بَيْنَ الْقَذْفِ وَالْجِنَايَةِ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ نَقَلُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَوَابَيْنِ إِلَى الْآخَرِ وَخَرَّجُوا الْقَذْفَ وَالْجِنَايَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْقَاذِفِ وَالْجَانِي مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ عَبْدٌ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي الْقَذْفِ، وَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ فِي الْجِنَايَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَقْذُوفِ وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنَّهُ حُرٌّ، وَلَهُ الْحَدُّ فِي الْقَذْفِ وَالْقَوَدِ فِي الْجِنَايَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ، وَالْجَوَابُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ فِي الْقَذْفِ قَوْلَ الْقَاذِفِ دُونَ الْمَقْذُوفِ، وَفِي الْجِنَايَةِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ دُونَ الْجَانِي. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ سُقُوطَ الْحَدِّ يُوجِبُ الِانْتِقَالَ إِلَى رَادِعٍ مِنْ جِنْسِهِ وَهُوَ التَّعْزِيرُ، فَجَازَ أَنْ يَسْقُطَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْقَوْلُ: لِأَنَّهُ إِذَا أُسْقِطَ لَمْ يُوجِبْ الِانْتِقَالَ إِلَى رَادِعٍ مِنْ جِنْسِهِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَسْقُطْ.
وَالثَّانِي: أَنَّ التَّعْزِيرَ بَعْدَ سُقُوطِ الْحَدِّ يَقِينٌ: لِأَنَّهُ بَعْضُ الْحَدِّ، وَالدِّيَةُ بَعْدَ سُقُوطِ الْحَدِّ شَكٌّ، فَجَازَ الِانْتِقَالُ إِلَى يَقِينٍ، وَلَمْ يَجُزْ الِانْتِقَالُ إِلَى شَكٍّ.
مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا يُحَدُّ فِي التَّعْرِيضِ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ التَّعْرِيضَ فِيمَا حُرُمَ عَقْدُهُ فَقَالَ: وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَقَالَ تَعَالَى: وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ فَجَعَلَ التَّعْرِيضَ مُخَالِفًا لِلتَّصْرِيحِ، فَلَا يُحَدُّ إِلَّا بِقَذْفٍ صَرِيحٍ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ اللِّعَانِ، وَالتَّعْرِيضُ كِنَايَاتُ الْقَذْفِ فَلَا يَكُونُ قَذْفًا إِلَّا بِالْإِرَادَةِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: الْمَعَارِيضُ قَذْفٌ فِي الْغَضَبِ دُونَ الرِّضَا كَقَوْلِهِ: أَنَا مَا زَنَيْتُ، أَوْ يَا حَلَالَ ابْنَ الْحَلَالِ، إِلَى مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنَ الدَّلَائِلِ مَا كَفَى، وَإِذَا سَقَطَ الْحَدُّ فِيهَا نُظِرَ إِلَى مُجَرَّدِهَا، فَإِنْ تَجَرَّدَتْ عَنْ أَسْبَابِ الْأَذَى فَلَا تَعْزِيرَ فِيهَا، وَإِنِ اقْتَرَنَتْ بِالْأَذَى وَالسَّبِّ عُزِّرَ فِيهَا، فَأَمَّا مَا كَانَ ظَاهِرُهُ الْفُحْشَ وَالسَّبَّ كَقَوْلِهِ: يَا فَاسِقُ، أَوْ يَا فَاجِرُ، فَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ التَّصْرِيحِ: لِأَنَّهُ سَبٌّ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ، فَيُعَزَّرُ بِهِ فِي الْأَحْوَالِ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْقَذْفَ فَيُحَدَّ. فَأَمَّا إِذَا قَالَ: يَا عَاهِرُ كنايات القذف. فَقَدْ ذَكَرْنَا فِيهِ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ قَذْفًا صَرِيحًا: لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَكُونُ كِنَايَةً، إِنْ أَرَادَ بِهِ الْقَذْفَ حُدَّ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْهُ عُزِّرَ. فَإِنْ أَرَادَ بِهَذِهِ الْمَعَارِيضِ وَالْكِنَايَاتِ الْقَذْفَ حُدَّ لَهَا، وَإِنْ أَنْكَرَ إِرَادَةَ الْقَذْفِ أُحْلِفَ لَهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُحَدُّ لَهَا وَلَا يُحْلَفْ عَلَيْهَا وَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى فِيهَا: احْتِجَاجًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكِنَايَةَ تَقُومُ مَقَامَ الصَّرِيحِ، وَالْحَدُّ إِنَّمَا يَجِبُ بِالْقَذْفِ، وَلَا يَجِبُ بِمَا قَامَ مَقَامَ الْقَذْفِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَفْظُ الْكِنَايَةِ قَذْفًا صَارَ بِالنِّيَّةِ قَاذِفًا، وَنِيَّةُ الْقَذْفِ لَا تُوجِبُ الْحَدَّ، وَدَلِيلُنَا شَيْئَان:
أحدهما: أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ عِنْدَنَا، وَمِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَهُ، وَالْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ يَجْمَعَانِ حُقُوقَ اللَّهِ وَحُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ، ثُمَّ كَانَ الْكِنَايَةُ فِيهِمَا مَعَ النِّيَّةِ كَالصَّرِيحِ: لِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِيهَا غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ بِخِلَافِ النِّكَاحِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَذْفُ فِي اخْتِصَاصِهِ بِأَحَدِ الْحَقَّيْنِ مُلْحَقًا بِمَا جَمَعَ الْحَقَّيْنِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ احْتَمَلَ مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيِ الْحُكْمِ فَقَصْدُهُ لِأَحَدِهِمَا مُوجِبٌ لِحَمْلِهِ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [يُوسُفَ: 129] إِنْ قَصَدَ بِهِ الْقُرْآنَ حُرِّمَ فِي الْجِنَايَةِ، وَلَمْ يَبْطُلْ بِهِ الصَّلَاةُ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْقُرْآنَ لَمْ يُحَرَّمْ فِي الْجِنَايَةِ، وَبَطُلَتْ بِهِ الصَّلَاةُ. فَأَمَّا الْجَوَابُ: أَنَّهُ مِثْلُ الْقَذْفِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مِثْلَ الشَّيْءِ مَا أَوْجَبَ مِثْلَ حُكْمِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَارٍ مَجْرَاهُ، وَلَيْسَ بِمِثْلٍ لَهُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ النِّيَّةِ: فَلَمْ نَجْعَلْهُ قَاذِفًا بِهَا كَمَا لَا نَجْعَلُهُ مُطَلِّقًا، وَإِنَّمَا جَعَلْنَاهُ قَاذِفًا بِاللَّفْظِ مَعَ النِّيَّةِ كَمَا نَجْعَلُهُ مُطَلِّقًا بِاللَّفْظِ مَعَ النِّيَّةِ.
مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ قَالَ لِعَرَبِيٍّ: يَا نَبَطِيُّ كنايات القذف. فَإِنْ قَالَ: عَنَيْتُ نَبَطِيَّ الدَّارِ أَوِ اللِّسَانِ. أَحْلَفْتَهُ مَا أَرَادَ أَنْ يَنْسُبَهُ إِلَى النَّبَطِ، وَنَهَيْتَهُ أَنْ يَعُودَ، وَأَدَّبْتَهُ عَلَى الْأَذَى. فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ حَلَفَ الْمَقْذُوفُ: لَقَدْ أَرَادَ نَفْيَهُ، وَحُدَّ لَهُ، فَإِنْ عَفَا فَلَا حَدَّ لَهُ. وَإِنْ قَالَ: عَنَيْتُ بِالْقَذْفِ الْأَبَ الْجَاهِلِيَّ. حَلَفَ وَعُزِّرَ عَلَى الْأَذَى. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ لِلْعَرَبِيِّ: يَا نَبَطِيُّ، يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ نَفْيَهُ مِنْ نَسَبِ الْعَرَبِ فَيَكُونَ قَذْفًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ نَبَطِيُّ الدَّارِ، أَوِ اللِّسَانِ فَلَا يَكُونُ قَذْفًا. فَخَرَجَ مِنْ صَرِيحِ الْقَذْفِ إِلَى كِنَايَتِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ مُرَادِهِ، فَإِنْ قَالَ: لَمْ أُرِدْ بِهِ الْقَذْفَ بَلْ أَرَدْتُ بِهِ نَبَطِيَّ الدَّارِ وَاللِّسَانِ. كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ. ثُمَّ يُنْظَرُ فِي مَخْرَجِ كَلَامِهِ، فَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ الدَّمَ وَالنَّسَبَ فَلَا يُعَزَّرُ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ دَمَهُ وَنَسَبَهُ عُزِّرَ لِلْأَذَى، فَإِنْ نَكِلَ عَنِ الْيَمِينِ حَلَفَ الْمَقْذُوفُ لَقَدْ أَرَادَ بِهِ نَفْيَ نَسَبِي، وَصَارَ قَاذِفًا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ بِهِ نَفْيَ نَسَبِهِ مِنَ الْعَرَبِ وَإِضَافَتَهُ إِلَى نَسَبِ النَّبَطِ، صَارَ قَاذِفًا لِإِحْدَى أُمَّهَاتِهِ، فَيُسْأَلُ عَمَّنْ أَرَادَ قَذْفَهَا مِنْهُنَّ، فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُهُنَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُرِيدَ قَذْفَ أُمِّ أَبٍ مِنْ آبَائِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَيَكُونُ قَاذِفًا لِكَافِرَةٍ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، لَكِنْ يُعَزَّرُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُرِيدَ أُمَّ أَبٍ مِنْ آبَائِهِ فِي الْإِسْلَامِ، فَيَكُونَ قَاذِفًا لِأُمِّ الْأَبِ الَّذِي أَرَادَهُ فَيَجِبُ فِي قَذْفِهَا الْحَدُّ: لِأَنَّهَا مُسَلَّمَةٌ، وَيَكُونَ ذَلِكَ لِلْأُمِّ إِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً هِيَ الْمُسْتَحِقَّةُ لِحَدِّهِ، فَإِنْ مَاتَتْ فَوَلَدُهَا إِنْ كَانَ بَاقِيًا، فَإِنْ مَاتَ فَلِوَارِثِهِ، فَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ وَرِثَ الْحَدَّ مَعَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ لِوُجُودِ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ كَانَ الْأَقْرَبُ أَحَقَّ بِالْحَدِّ: لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِالْمِيرَاثِ. فَإِنْ عَفَا الْأَقْرَبُ عَنْهُ فَفِي اسْتِحْقَاقِ هَذَا الْأَبْعَدِ لَهُ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ أَقَاوِيلِهِ فِي مِيرَاثِ هَذَا الْحَدِّ، هَلْ يَجْرِي مَجْرَى مِيرَاثِ الْأَمْوَالِ أَوْ لَا؟ القذف عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ، إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يُوَرَّثُ مِيرَاثَ الْأَمْوَالِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَسْتَحِقُّهُ بَعْدَ عَفْوِ الْأَقْرَبِ، إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْعَصَبَاتِ لِنَفْيِ الْعَارِ عَنْهُمْ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُرِيدَ أُمَّهُ الَّتِي وَلَدَتْهُ فَيَكُونُ قَاذِفًا لَهَا، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً كَانَ الْحَدُّ مُسْتَحِقًّا لَهَا، فَإِنْ عَفَتْ عَنْهُ فَلَا حَقَّ لِوَلَدِهَا وَجْهًا وَاحِدًا، بِخِلَافِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ عَفْوِ الْأَقْرَبِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْأُمَّ فِي اسْتِحْقَاقِهِ أَصْلٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى وَارِثِهَا مَعَ سُقُوطِهِ بِعَفْوِهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْأَقْرَبُ: لِأَنَّهُ فَرْعٌ يَجْرِي عَفْوُهُ مَجْرَى عَدَمِهِ، فَجَازَ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ أَبْعَدَ مِنْهُ، فَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْأُمُّ مَيِّتَةً فَهُوَ يَسْتَحِقُّ الْحَدَّ مِيرَاثًا عَنْهَا، فَإِنْ عَفَا عَنْهُ وَكَانَ لَهَا وَارِثٌ غَيْرَهُ فِي دَرَجَتِهِ فَلَهُ اسْتِيفَاءُ الْحَدِّ وَلَا يَسْقُطُ بِالْعَفْوِ، وَإِنْ كَانَ لَهَا مَنْ لَا يَرِثُ مَعَ الِابْنِ كَالْإِخْوَةِ، فَفِي اسْتِحْقَاقِهِمْ لِلْحَدِّ بَعْدَ عَفْوِ الِابْنِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ.
مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ قَذَفَ امْرَأَةً وُطِئَتْ وَطْئًا حَرَامًا، دُرِئَ عَنْهُ فِي هَذَا الْحَدِّ وَعُزِّرَ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْعِفَّةَ شَرْطٌ فِي الْإِحْصَانِ لِلْقَذْفِ، فَإِنْ وُطِئَتْ وَطْئًا حَرَامًا انْقَسَمَ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَيُسْقِطُ الْعِفَّةَ القذف وَهُوَ الزِّنَا، سَوَاءٌ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ، فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهَا، سَوَاءٌ حُدَّ فِي الزِّنَا أَوْ لَمْ يُحَدَّ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَلَكِنْ يُسْقِطُ الْعِفَّةَ القذف، وَهُوَ وَطْءُ الْأَبِ جَارِيَةَ ابْنِهِ، أَوْ وَطْءُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ لِلْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ، فَلَا حَدَّ فِيهِ لَكِنْ يُسْقِطُ الْعِفَّةَ فِي الْوَاطِئِ وَالْمَوْطُوءَةِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ مُسْتَكْرِهَةً، فَأَيُّهُمَا قُذِفَ فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ، وَفِي سُقُوطِ الْعِفَّةِ وَجْهَانِ القذف، وَهُوَ الْوَطْءُ فِي نِكَاحٍ بِلَا وَلِيٍّ، أَوْ بِغَيْرِ شُهُودٍ، أَوْ فِي نِكَاحِ مُتْعَةٍ أَوْ شِغَارٍ، فَإِنْ قَذَفَ أَحَدُهُمَا فَفِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ وَجْهَانِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَلَا يُسْقِطُ الْعِفَّةَ القذف، وَهُوَ وَطْءُ الزَّوْجَةِ أَوِ الْأَمَةِ فِي حَيْضٍ، أَوْ فِي إِحْرَامٍ، أَوْ فِي صِيَامٍ، فَتَكُونُ الْعِفَّةُ بَاقِيَةً: لِأَنَّهُ صَادَفَ مَحَلَّ الْأَنْكِحَةِ، وَالتَّحْرِيمُ عَارِضٌ، فَأَيُّهُمَا قَذَفَ وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِهِ. وَقَدِ اسْتَوْفَيْنَا هَذَا فِي كِتَابِ اللِّعَانِ.
مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا يُحَدُّ مَنْ لَمْ تَكْمُلْ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ إِلَّا حَدَّ الْعَبْدِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا لَمْ تَكْمُلْ حُرِّيَّةُ الْمَقْذُوفِ لِكَوْنِهِ مُدَبَّرًا، أَوْ مُكَاتِبًا، أَوْ أُمَّ وَلَدٍ: لِبَقَاءِ جُزْءٍ مِنَ الرِّقِّ فِيهِ وَإِنْ قَلَّ، فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ، كَمَا لَوْ قَذَفَ عَبْدًا قِنًّا، وَيُعَزَّرُ لِلْأَذَى. فَأَمَّا إِنْ كَمُلَتْ حُرِّيَّةُ الْمَقْذُوفِ وَلَمْ تَكْمُلْ حُرِّيَّةُ الْقَاذِفِ، وَكَانَ مُكَاتِبًا أَوْ مُدَبَّرًا، أَوْ فِيهِ جُزْءٌ مِنَ الرِّقِّ، فَعَلَيْهِ حَدُّ الْعَبِيدِ: وَهُوَ نِصْفُ حَدِّ الْحَرِّ، كَالْعَبْدِ الْقِنِّ: لِأَنَّ أَحْكَامَ الرِّقِّ جَارِيَةٌ عَلَيْهِ فِي وِلَايَتِهِ وَشَهَادَتِهِ وَنِكَاحِهِ وَطَلَاقِهِ، فَكَذَلِكَ فِي الْقَذْفِ وَالزِّنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.